كتب الكاتب والأستاذ الجامعي ورئيس اتحاد الكتّاب العرب في دمشق الدكتور محمد الحوراني في صحيفة لعبة الأمم مقالاً جاء فيه: لا شكَّ في أنَّ الضّعفَ الذي تَعِيشُهُ غالبيَّةُ المُؤسَّساتِ الثَّقافيّةِ في الدُّوَلِ العربيَّة وفي بعضِ دُوَلِ العالَمِ، يعودُ إلى أسبابٍ كثيرةٍ، منها ما يتعلّقُ بالمُثقَّفِ عَيْنِهِ، ومنها ما هو مُتعلِّقٌ بالقائمِينَ على بعضِ المَفاصلِ الثقافيّة، وبعضُهُمْ لا يَعرِفُ ما إنْ كانَ “طَوْقُ الحَمامَةِ” كِتاباً أو قلادَةً صَنَعَها بعضُ عُشّاقِ الحَمَامِ للاستمتاعِ برُؤيَتِها على رقبةِ هذا الطّائر، لكنّهُ لسببٍ ما، قذَفَتْهُ المُصادَفَةُ أو الرَّغبْةُ إلى هذا المفصلِ الثَّقافيِّ أو ذاكَ، فقدَّمَ نَفْسَهُ على أنّهُ مُخلِّصُ مُجْتمَعِهِ مِمّا أصابَهُ، ورُبَّما قدَّمَ نَفْسَهُ على أنّهُ عانى أضعافَ ما عاناهُ “ابنُ رُشْدٍ” بعِلْمِهِ وفِكْرِهِ ومَعارِكِهِ ووَعْيِهِ، الّذي أرادَ بِهِ تحطيمَ التابوهاتِ المُشَرْعِنَةِ للاسْتِبْدادِ الثَّقافيِّ والتَّجْهِيلِ المَعْرِفيّ. ولعلَّ هذا عائدٌ في المقامِ الأوَّلِ إلى العقليّةِ السّائدةِ في التَّعامُلِ معَ المُؤسَّساتِ الثَّقافيّةِ والمُثقَّفِ، إذْ إنَّ ما يُرِيدُه كثيرٌ مِنَ الأنْظِمَةِ لهذهِ المُؤسَّساتِ أنْ تبقى بائسَةً ومُتَخلِّفَةً وبعيدةً عنِ القِيامِ بأيِّ دورٍ اجتماعيٍّ فاعلٍ، بل إنّها غالباً ما تكونُ حاضِنَةً لثقافَةِ الخُضُوعِ، وبعيدةً عنِ الرَّغبَةِ الحقيقيَّةِ في النُّمُوِّ والارْتِقاءِ المُجتَمَعِيّ، إضافةً إلى كَوْنِها جاذِبَةً لأسْوَأِ أنواعِ الثَّقافةِ والإبداع، ومأوىً لأشْباهِ المُبدِعينَ والمُثقَّفين، ومِنْ ثَـمَّ تَغْدُو عاجزةً عن تقديمِ الرُّؤى والأفكارِ ووَضْعِ الإستراتيجيّاتِ، الّتي من شأنِها أنْ تُسْهِمَ في الارْتِقاءِ بالمُجتمَعِ ومُؤسَّساتِهِ كافّةً، وهُوَ ما يُؤدِّي إلى اضْطراباتٍ في المفاهيمِ وفوضى في الأنماطِ الثقافيّةِ، تُؤدِّي معاً إلى تفتيتِ المُجتمَعِ وعَرْقَلَةِ كُلِّ مُحاوَلةٍ مِنْ شأنِها أنْ تُؤسِّسَ لفعلٍ ثقافيٍّ حقيقيٍّ، وهذا ما يَنْعَكِسُ سلباً على الواقعِ السِّياسيِّ أيضاً، ذلكَ أنَّ الواقعَ الثقافيَّ يتّصِلُ اتِّصالاً وثيقاً بغَيرِهِ، بلْ إنَّ أيَّ مُحاوَلةٍ للنُّهوضِ والتَّطْويرِ لا يُمكِنُ أن تَحْدُثَ في مَعْزِلٍ عن الوعيِ الثقافيِّ، وهُوَ وعيٌ يُفترَضُ أن يكونَ مُتقدِّماً بخُطُواتٍ عن مثيلهِ السِّياسيِّ، بل إنَّ الوعيَ الثقافيَّ مِنْ شَأْنِهِ أيضاً أنْ يكونَ الرَّافِعَةَ الأساسيَّةَ للوَضْعِ الاقتصادِيِّ، حينَ تكونُ الثَّقافةُ بعيدةً عن الاتِّكاليّةِ واللامُبالاة، ومِنْ ثَمَّ فإنَّها تُسْهِمُ بدَورٍ فاعلٍ في تحفيزِ التَّطْويرِ الاقتصاديِّ، والتَّأسيسِ للدَّولةِ العَمِيقَةِ القائِمَةِ على أُسُسٍ ثابتةٍ ورصينةٍ، بعيداً عن الاقتصاداتِ الاستهلاكيَّةِ الوَهْمِيَّةِ العاجِزَةِ عن خَلْقِ المَشْرُوعاتِ التَّنْمَوِيَّةِ والاقْتِصاديّةِ الفاعِلَة. لا يُمكِنُ أن يتحقَّقَ هذا الفِعلُ الثقافيُّ النَّهْضَوِيُّ الفاعلُ والمُؤثِّرُ إيجاباً في غَيرِهِ إلّا بوجودِ مُثقَّفٍ حقيقيٍّ مُتَصالحٍ معَ نَفْسِهِ، ومُتَفانٍ من أجلِ زُمَلائِهِ، وبعيدٍ عنِ التَّكتُّلاتِ، وراغبٍ في التَّضحيةِ في سبيلِ مُجْتَمَعِهِ وقَناعَتِهِ، وليسَ بوُجودِ مُثقَّفٍ مريضٍ لا يُدْمِنُ سِوى التَّعالي والعُدْوانِ الفِكريِّ، ولا يُجيدُ أيّاً من مُفرَداتِ النَّقْدِ الجماليِّ والرُّقيِّ الحضاريِّ في تَعاطِيهِ معَ مُحيطِهِ الثقافيِّ، ومعَ كُلِّ مَنْ يَلُوذُ بالمُؤسَّساتِ الثَّقافيّةِ أو المَعْرِفيّةِ والفِكْريّةِ، الّتي يَتربَّعُ على عَرْشِها، بل إنَّ هؤلاءِ، غالباً، ما يُقْبَضُ عليهم مُتَلبِّسينَ بحوادثِ اعتداءاتٍ سخيفةٍ وإساءاتٍ رخيصةٍ لكُلِّ مَنْ يختلفُ مَعَهُمْ في الرَّأيِ، أو يعترضُ على ادِّعائِهِمُ العِصْمَةَ، وإفْسادِهِمُ المُؤسَّساتِ بمَشاعرِ التَّوحُّشِ التي يَغْلي بها مِرْجَلُهُمْ، قبلَ قَذْفِها على خُصومِهِمْ حِمَماً حارِقَةً، وَفْقَ تعبيرِ المُفكِّرِ المغربيِّ “عبدِ الإله بلقزيز” في كِتابِهِ “نهاية الدّاعية”. إنَّ فسادَ بعضِ المُؤسَّساتِ الثَّقافيّةِ، أو غالِبيّتِها، عائدٌ أساساً إلى فسادِ القائمِينَ عليها، وتَمكُّنِ (السُّوس) من رُؤوسِهِمُ المَنْخُورَةِ بالفَوقيّةِ والتَّعالي والابتعادِ عن مُفرَداتِ الحِوارِ الراقيةِ المُسْتَمَدَّةِ مِنْ تُراثِنا وتاريخِنا ومُقدَّساتِنا، والكفيلةِ بتحويلِ الخَصْمِ إلى حبيبٍ وصديقٍ، بل إلى وليٍّ حميمٍ لا يَمْنَعُهُ مانِعٌ مِنْ تقديمِ رُوحِهِ فِداءً لكَ حينَ تَقْتَضِي الحاجَة، وفي هذا قالَ اللهُ تعالى في كتابِهِ العزيز: {ادْفَعْ بالّتي هِيَ أحْسَنُ فإذا الّذي بَيْنَكَ وبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كأنّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فُصِّلَتْ 34). إنّهُ الشَّرطُ الأساسيُّ الّذي ينبغي تَحقُّقُهُ وتَوافُرُهُ لدى كُلِّ داعِيَةٍ أو مُصْلِحٍ ثقافِيٍّ يتَسنّمُ إدارةَ مفصلٍ من مفاصلِ الثقافةِ والإبداعِ، وهُوَ شرطٌ لا بُدَّ منهُ لإحداثِ تغييرٍ مُجْتمَعيٍّ يَقُودُهُ المُثقَّفُ من خلالِ المُؤسَّسةِ الّتي يَرْأَسُها، ويَتَشرّفُ بخِدْمَةِ هُوِيَّتِهِ وثَقافَتِهِ ومُجْتَمَعِهِ ومَنْ يَلُوذُ بهِ مِنَ المُهْتَمِّينَ والمُشْتَغِلينَ والحَرِيصِينَ على التَّغْييرِ والنُّهوضِ الثَّقافيِّ، أمَّا حينَ يُصِرُّ على التَّعالي والإمساكِ بالسُّلْطَةِ الوَهْمِيّةِ وتَجْوِيفِ المُؤسَّسةِ مِنْ عواملِ قُوّتِها ووَحْدَتِها، فإنَّ الخَواءَ والجَهْلَ وانْعِدامَ المِصْداقِيَّةِ سيبقى هُوَ المُسَيْطِرَ على المَشْهَدِ الثَّقافيّ، وسيَبْقَى (مُخْتارُ الثَّقافَةِ) المُزيَّفُ هذا، قائداً لمعركةِ التَّجْهيلِ الثَّقافيِّ وسابحاً في بِحَارِ التَّوهُّمِ والتَّعالي، مُنْتَظِراً مَنْ يُطْلِقُ عليهِ وعلى المُؤسَّسَةِ الّتي يَقُودُها رَصاصَةَ الرَّحْمَةِ، بَعْدَ أنْ غَدَتْ عاجزةً عن القِيامِ بالدَّورِ الّذي أُسِّسَتْ مِنْ أجْلِهِ، بعيداً عن الألاعيبِ والأكاذِيبِ والاتِّهامات.